إذا عرف الصغير ربه، وعظم قدر ربه في قلبه، نشأ على طاعة الله تعالى، ونشأ على محبته، وأحب عبادة الله وعظمها في صغره، وسهلت عليه وداوم عليها في كبره، وكره المعصية ونفر منها، وكره كل ما نهى الله تعالى عنه؛ حيث أن آباءه يعلمونه الخير ويؤدبونه عليه logo    جاء الشرع الشريف مرغبا في حسن المعاملة مع الأفراد والجماعات ؛ فحث على اختيار الرفقاء الصالحين ونفر من قرناء السوء، ورغب في زيارة الإخوان والأنس بهم، وأخبر بأن المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من صاحب العزلة؛ فإن الأول ينفع الناس ويرشدهم، ويتحمل ما ناله في ذات الله من إساءة وضرر. إن غسل أعضاء الوضوء في اليوم خمس مرات دليل على أن الإسلام جاء بما ينشط البدن وينظفه، كما جاء بما يطهر الروح ويزكيها. فهو دين الطهارة الحسية والمعنوية. إن المؤمن بربه يرضى بالقضاء والقدر، ويعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، ويعلم أن في الابتلاء والامتحان خيرا كثيرا وأجرا كبيرا، وأن المصائب والنكبات يخفف الله بها من الخطايا، فيستحضر قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ما أصاب العبد المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه" متفق عليه من كان مسافرا ولم يصل المغرب والعشاء فأدرك العشاء خلف إمام مقيم فالمختار أنه يصلي المغرب وحده، فإذا صلاها دخل معه في بقية العشاء، وذلك لاختلاف النية؛ فإن المغرب والعشاء متفاوتان بينهما فرق في عدد الركعات. هذا الذي نختاره. وأجاز بعض المشائخ أنه يدخل معهم بنية المغرب، فإذا صلوا ثلاثا فارقهم وتشهد لنفسه وسلم، ثم صلى العشاء، ولكل اجتهاده
shape
السلف الصالح بين العلم والإيمان
12183 مشاهدة print word pdf
line-top
العلم الذي حصله السلف

وإذا عرفنا فضلهم نبحث أيضا - نبحث بعد ذلك - في الموضوع الثالث؛ ألا وهو العلم.
العلم الذي حصلوا عليه نقول: إن العلم المراد به: العلم الصحيح، العلم الموروث عن الرسل، العلم الذي هو ميراث رسل الله، ميراث أنبياء الله، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- إن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما؛ وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر فعلم السلف متلقى عن الرسول عليه الصلاة والسلام أخذه صغيرهم عن كبيرهم، وكبيرهم عمن قبله إلى أن ثبتوا ذلك، وأوصلوه إلى مصدره ومعينه وهو النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد قيضهم الله -عز وجل- وقيض علماء في هذه الأمة منهم وممن بعدهم لحفظ هذا العلم الصحيح، ولتصفيته، ولحمايته عما يُدْخَلُ فيه من الأكاذيب، ومما ليس منه؛ ولهذا اشتغلوا بتركيب الأسانيد، الأسانيد التي توجد في كتب الحديث ما هي إلا للتثبت؛ حتى لا يقبل قول إلا بعد التثبت من صحته.
ذكر بعض العلماء أن السلف لم يكونوا يسألون الصحابة، ما كانوا يسألون عن الإسناد؛ ولكن رأوا من بعض الناس التساهل في رواية ما ليس بثبت، فقالوا للرواة: سموا لنا رجالكم. يعني: حتى نعلم ممن أخذتم عنه، فإذا سموا رجلًا موثوقًا وثبتًا عرفوا أن الحديث أو الأثر مقبول وثابت، وإذا سموا من هو ضعيف أو من ليس من أهل الصناعة عرفوا أن ذلك ليس بثبت، وهذا هو السبب في تركيب هذه الأسانيد، وهذا دليل على حرص السلف رحمهم الله على حفظ السنة وعلى حمايتها عما هو دخيل فيها.
علمهم الذي تميزوا به هو: أولًا: حفظهم للسنة النبوية ٌالتي رووها عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وكذلك حفظهم لكلام الله سبحانه، وحرصهم على حمايته عن أيدي العابثين؛ ولهذا اهتموا –أولًا- بتدوين كتاب الله، وكتابته بعد موت النبي -صلى الله عليه وسلم- بعدة أيام، فأثبتوه في صحف؛ حتى لا يذهب ولا يفقد منه شيء، ثم كتبوه في مصاحف ونشروه إلى الأمة؛ حتى يقرءوه ويحفظوه، ويعرفوا أن هذا هو القرآن المنزل عليهم.
ثم من علمهم – أيضًا - أنهم اشتغلوا ببيانه وبإيضاحه. البيان: هو تفسيرهم لمعانيه التي قد تخفى على من بعدهم؛ وذلك لأنهم شاهدوا التنزيل؛ ولأنه نزل بلغتهم وبلسانهم؛ ولأنهم أعرف بأسبابه، وأعرف بما يراد به. فلأجل هذا تقدم تفاسير الصحابة، وتفاسير تلاميذ الصحابة على من بعدهم، على أهل الأزمنة المتأخرة؛ الذين يفسرون القرآن بالآراء أو بالتخرصات، أو يطبقونها على الوقائع والحالات، أو ما أشبه ذلك.. فيقدم على الصحيح تفسير أولئك ويقبل في أن هذا هو المراد بهذه الآية، وإذا تجدد شيء يدخل في عموم الآية فلا مانع من قبوله؛ ولكن نقدم التفاسير؛ ولأجل هذا علماء الأمة الذين اشتغلوا بعلم التفسير يستشهدون بالأحاديث أو الآثار التي لها صلة بالقرآن؛ وذلك لأنها بيان له.
ونحن نعلم - أولًا -أن الله تعالى أنزل هذه الشريعة وهذه الرسالة على محمد صلى الله عليه وسلم، وكلفه بأن يبلغها للناس بقوله: إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ كلفه بأن يبلغ هذه الرسالة، ونحن بلا شك نعرف ونعتقد ونتحقق أنه بلغ الرسالة.
ثم بعد ذلك لم يقتصر على مجرد إلقائها عليهم؛ بل بينها لهم ووضحها بالعمل وبالقول، فشرح لهم ما خفي عنهم، ووضح لهم ما يحتاجون إلي إيضاحه؛ عملًا بأمر الله له، قال الله تعالى: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ لما أن الله أنزل عليه هذا الكتاب ليبينه للناس شرع في بيانه، فبيانه هو بيانه بالفعل كالصلاة والحج والزكاة، وما أشبه ذلك من الأشياء المجملة، وكالحدود والعقوبات والتعزيرات المجملة في القرآن التي أوضحها وبينها.
بيانه - أيضا – بالقول: ما فسره هو وأوضحه من الآيات وبين المراد منها كما استشهد بذلك المفسرون.
لا شك أن الصحابة الذين بَيَّنَهَا لهم تَحَمَّلوها، ولما تحملوها لم يسكتوا عندها؛ بل بلغوها وبينوها لتلامذتهم؛ وذلك لأن النبي عليه الصلاة والسلام كلفهم بذلك، كلفهم بأن يبلغوها، ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ليبلغ الشاهد الغائب وقال فيما ثبت عنه: نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها وأداها كما سمعها، فرب مبلغ أوعى من سامع، ورب حامل فقه لغير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه .
فلما أنهم سمعوا ذلك منه، عرفوا أنه سوف ينتقل إلى الرفيق الأعلى، وأنهم سيقومون بعده بحمل هذه الشريعة، وبحمل نصوصها، وحمل معانيها، وحمل كيفياتها، فما سكتوا؛ بل بلغوا ذلك، وأخبروا خاصا وعاما بما علموه وبما حفظوه.
فالنصوص التي حفظوها حدثوهم بها وما كتموا شيئا، والنصوص التي حفظوا معناها ذكروا لهم معانيها، فَمَثَّلوا لهم الأمثلة، وفعلوا الأفعال أمامهم؛ ليبينوا لهم أن هذا ما حفظوه وما تلقوه عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولأجل هذا ظهرت أعمالهم طبقًا لذلك العلم؛ وذلك أن العلم إذا كان سليمًا وكان علمًا صحيحًا فإنه يتبعه العمل؛ لأنه ثمرته.
ولا شك أن علوم السلف التي تلقوها عن نبيهم، وتلقوها عن مشائخهم وأكابرهم، لا شك أنها علوم جمة، وكلها فيما يتعلق بالشريعة. العلوم التي تلقوها عن نبيهم عليه الصلاة والسلام كلها فيما يتعلق بالشريعة، وفيما يتعلق بالأمر والنهي من الله -عز وجل- فتعلموا منه ما يقولونه بألسنتهم, وما يعتقدونه في قلوبهم وهو أمور العقيدة، وتعلموا منه ما يتقربون به إلى الله -عز وجل- وهو أمور العبادة، وتعلموا منه ما يلزمهم في هذه الحياة من الأعمال، وما يلزمهم تركه من المحرمات ونحو ذلك، كل ذلك تحملوه وكله بَلَّغُوه، فهذا من العلم.

line-bottom